الأربعاء، 25 فبراير 2015

صباحات نحيا بها ومن أجلها




تستيقظ بابتسامة مرسومة على شفتيها في الدقيقة الخامسة والأربعين بعد الخامسة على صوت منبه هاتفها المحمول. توقف تشغيله وتنفض عن نفسها النوم والغطاء. تُنزِل قدميها لتتلمس موضع نعليها وهي تعبث بسعادة بأطراف شعرها البني. تتأمل وجهها الحسن في مرآة الحمام وهي تُعيد في ذاكرتها الأغنية التي غناها لها حبيب قلبها ليلة أمس قبل النوم، وتتذكر ما تلاه عليها من أبيات الشعر العربي البليغة، والكلمات التي أسمعها لها والتي تشبه الدندنات الموسيقية في سحرها، وتكرر على قلبها صوته وهو يتمنى لها أحلاما هانئة. 

لا يقطع حبل الذكريات الحديثة ذاك إلا سماعها صوت تنبيه الرسائل على هاتفها، فتجري نحوه لتقرأ رسالته. بماذا سيخبرها هذا الصباح يا ترى؟ أمقطع من إحدى أغنياتهما المفضلة؟ أم دعوة قلبية بأن يحفظها الله له؟ أم يرسل لها اليوم كلمات من وحي قلبه هو؟ تفتح رسالته بشغف وتجده يخبرها بإنه يمتلك العالم طالما هي معه، ويخبرها بإنه يحبها جدا وجدا وجدا. تحتضن هاتفها، وتضع قبلة على شاشته، وتكتب له ردا. رسائله الصباحية تلك تجعلها تشعر بأنها تريد أن تحتضن العالم كله، ليس هاتفها وحسب. تُشعرها بأنها ملكة هذا الصباح المتوجة، وبأن على هذه الأرض أشياء لا تزال تستحق الحياة.

 تمد أصابعها لتلتقط قطع ملابسها واحدة تلو الآخرى بحنو بالغ، وتسمع صوته مغازلا أناملها الرقيقة وأظافرها اللوزية. تعرف ما سيقوله عندما ترتدي ثيابها قطعة قطعة إلا أنها ترغب في سماعه مرات ومرات للأبد. يشرح لها  كم حالف الحظ تلك الثياب لتشم رائحتها عن قرب، وكم محظوظ هذا الهاتف الذي تلمسه عشرات المرات في اليوم الواحد، ويغبط كل ما حولها من جمادات، وكل من يراها من بشر. تضحك هي ضحكة تنير الكون بأكمله وتصغي لدقات قلبه، وتسمع ما سينطق به قبل أن يفعل. يوصيها بأن تتناول فطورها، وبأن تأكل جيدا. ويذكرها بشرب قهوتها الصباحية التي قد كان ابتاعها لها. ويخبرها بأنه مشتاق ليوم يفتح به عيناه ليجدها بجواره، ولأن يحضر لها قهوتها بنفسه في الصباحات. أجمل الليال تلك التي تنام فيها على صوته الحانِ، وأجمل الصباحات تلك التي تستقبلها باتصاله. 


تلقي نظرة أخيرة على مظهرها في المرآة وتأخذ حقيبة يدها التي لا تخلو من كحل وأحمر شفاه، وتطأ قدماها شوارع المدينة ذاهبة إلى عملها. تعرف أنه يوم شاق، لكن هذا اليوم بدأ بصوته فلا يهم ما سيحدث على مدار ساعاته. رغم أنها لا يمكنها أن تمسك بذراعه كطفلة صغيرة تتعلق بيد والدها، ورغم أنه ليس معها في هذا الحيز المكاني، هي على يقين أنه هنا. تسمع تعليقاته في رأسها كأنه واقفا بجانب كتفها الأيسر، ترى نظرات عينيه المحبة لها، وتشعر بحضوره يحميها. فتستقبل الزحام بسعة صدر، ولا تعبس في وجه السائلين. تبتسم في وجه الأطفال، وتشكر كل من يسدي لها معروفا. تصطحب أشعة الشمس معها حتى وإن اشتد برد الشتاء. تدفيء قلب من تحادثه، وتحمله روحها على حب الحياة. ليس كل من يقع في الحب يقع! هناك من يُخرج الحب منه أجمل ما فيه. وصباح كهذا الصباح لأجل عيونه كان يستحق منا أن نتحمل كل الأشياء السيئة التي حدثت دون أن نتبرم ونشتكي. 

عندما تعبر الشارع تجده يتأملها من مسافة ليست بعيدة. يتأمل كل حركاتها بانبهار الأب الذي يرى طفلته تسير وحدها لأول مرة. يتأملها في شغف. لا يحرك رقبته بعيدا عن اتجاها، بل لا يحرك عينيه بعيدا عنها. يسير نحوها دون أن ينظر حوله. يتعثر أثناء مشيه ويكاد أن يقع. يقف مكانه وينظر إليها ويقول بصوت تسمعه :"ماذا تراني أفعل؟! أنتِ السبب! أنتِ ساحرةٌ!" تخفض نظرها إلى الأرض وتبتسم في خجل وتكمل سيرها وقلبها طرب. ترسل نظرة خاطفة ورائها فتجده حولها يخبرها بأنه في انتظارها حتى تعود. يطمئن قلبها فتسير بتأنِ وتكمل طريقها إلى عملها. صباح بمثل جمال الصباحات التي يصحبها فيها وجوده الكامل هي أجمل ما في تلك الحياة في عينيها البراقتين. ولمثل هذه الصباحات تحيا، وعلى مثل تلك الصباحات تعيش.

الثلاثاء، 3 فبراير 2015

عن الكتابة


تكتب؟ 
غصب عني أكتب. 
غصب عني 
غصب عني أكتب

 الكتابة فعل لا ينتهي طالما يدخل النفس في جسد الكاتب ويخرج منه. فالكاتب لا يكف عن نسج القصص القصيرة في عقله، سواء اختار لها نهاية، أو ظل حائرا كيف ينهيها. ويستمر في سطر الرواية التي يعرف نهايتها جيدا ويرسم حيوات شخصياتها بفكره. ورغم أن فعل الكتابة هو فعل مستمر في الزمن، فإن الزمن أحيانا يضني على الكتاب بوقته، فتبقى كثير من المحاولات الابداعية مجرد محاولات. فالكتابة لا ترضي بأقل من أن يكون فعلها تاما لا ناقصا. وفعلها لا يتم إلا بتدوين النص. 

 وتتجمع وحوش محاولات الكاتب الفاشلة في تدوين النصوص كوحوش سوداء لا يرى منها إلا عيون تلمع في الظلام لتنقض عليه - لا لتأكله - بل لتوقع به فريسة لفعل الكتابة. ويجد الكاتب نفسه أمام تلك الرغبة الملحة في تدوين كل ما ألفه، وكل ما نسيه، وكل ما أسقطه من حساباته الكتابية. يجد الكاتب نفسه مأخوذا رغما عن أنفه وجسده كاملا عن كل شيء عداها. ويجلس أمام آلته الكاتبة، أو حاسوبه، أو ورقته وقلمه، يجلس أمام أدواته أيا كانت ويسكب نفسه جملا وسطورا. وحينها تحتفل الكتابة بغوايتها، وينتصر النص المدون على الموت.

كراكوف التي لا أعرفها



رأيت فيما يرى الرائي الليلة أنني في مدينة كراكوف أمشي في شوارعها برفقة "أجنيشكا"، والتي يعني اسمها "النقية" إذا ما ترجمناه من البولندية إلى العربية، وهي صديقتي التي تسكن هذه المدينة منذ مجيئها للحياة. لم تكن كراكوف في الحلم كما كنت تخيلتها في عقلي، ولم تكن تشبه الصور التي رأيتها من قبل، ولا تمط بأي صلة للمدينة التي وصفتها لي "أجا" العام الماضي عندما كانت كليتنا تتشاركان في قص القصص عن المدن، والأماكن، والترحال. 

 أنظر لصديقتي وأراها تنظر بدورها للآثار بنية اللون المتبقية من معالم كراكوف، وهي تبتسم في حنين إلى ماض بعيد، وتتوجه بنظرها إلى باب خشبي ضخم ممتد إلى السماء بلا نهاية وعلى جانبه الأيمن شباك كبير لم يكن في نية من بنو الباب أن يضعوه هناك. يبدو وكأنه شباك نتج صدفة عن مرور قذيفة ما بين ألواح الباب الخشبية. وعلى جانبه الأيسر فتحات ضخمة غير منتظمة الشكل والحجم تدل على أن ما تبقى من الباب اليوم شهد عملية اعتداء - ليس فقط على أسوار المدينة وبواباتها_ بل امتد ليشمل بناياتها وشوارعها ومحالها. 

 كراكوف التي كنت أراها في صور من سافروا إليها، وفي الصورالتي أخذها لها أهلها ومحبيها، وفي اللقطات الكلامية التي ترجمها عقلي إلى لقطات مرئية، كانت تستمع بحمام شمس ذهبية سمحت لشوارعها بألا تخلو من زهرة تباع الشمس. بنيت حوائطها طوبة فوق طوبة على الطراز المعماري القديم، ولا تخلو شوارعها من تفاصيل الأحجار المرصوصة جنبا إلى جنب حتى يمكنك أن تشعر بالفواصل الرفيعة بين كل حجر والآخر أثناء مشيك عليه. 

أما كراكوف التي رأيتها في منامي ليست إلا مدينة متشحة بالسواد، كئيبة، ومدمرة كأنها خرجت من حرب لتوها - أو خرج منها المحاربون لتوهم-، مظلمة ومعتمة لا شمس تزورها، شوراعها خالية من المارة وكأنهم قد قتلوا جميعا أثر الرصاص أو الرعب، نوافذ بيوتها رغم تسلل الرصاصات خلال ضلفها الخشبية والزجاجية لازالت مغلقة تخفي وراءها جثث أصحاب المنازل، ونصف بناياتها تناثر إلى جانب تراب شوارعها، شوارعها المكسية أرضياتها بالتراب والرمال، والنصف الآخر المتبق مكانه من بناياتها لا يصلح لشيء إلا للرثاء.


- هل هذه هي كراكوف؟! ألسنا في مدينة أخرى يا أجا؟

 قالت مكابرة:  بالطبع نحن في كراكوف. هذه هي كراكوف.

- ولكن هذه ليست كراكوف التي رأيتها في الصور! ليست هي ما تخيلته!

قالت وهي تبتعد: ربما ما رأيتها أنت مدينة مختلفة، ولكنك لا تتذكرين جيدا.

- كيف؟! أنت كنت معي! كنا نراها في الصور معا! كنت تحكين لي عنها! أنت تعرفين أن هذه ليست كراكوف. 


لم تجبني أجا، ولم تقل لي شيئا. فقط سبقتني ببضعة خطوات وهي تنظر تجاه الباب الخشبي المتهدم، لكنها كانت تنظر إلى مكان ما وحدها هي تعرفه.ورأيت أنا في نظراتها الخسارة والحسرة. رأيت في عينيها كراكوف الضائعة.