تستيقظ بابتسامة مرسومة على شفتيها في الدقيقة الخامسة والأربعين بعد الخامسة على صوت منبه هاتفها المحمول. توقف تشغيله وتنفض عن نفسها النوم والغطاء. تُنزِل قدميها لتتلمس موضع نعليها وهي تعبث بسعادة بأطراف شعرها البني. تتأمل وجهها الحسن في مرآة الحمام وهي تُعيد في ذاكرتها الأغنية التي غناها لها حبيب قلبها ليلة أمس قبل النوم، وتتذكر ما تلاه عليها من أبيات الشعر العربي البليغة، والكلمات التي أسمعها لها والتي تشبه الدندنات الموسيقية في سحرها، وتكرر على قلبها صوته وهو يتمنى لها أحلاما هانئة.
لا يقطع حبل الذكريات الحديثة ذاك إلا سماعها صوت تنبيه الرسائل على هاتفها، فتجري نحوه لتقرأ رسالته. بماذا سيخبرها هذا الصباح يا ترى؟ أمقطع من إحدى أغنياتهما المفضلة؟ أم دعوة قلبية بأن يحفظها الله له؟ أم يرسل لها اليوم كلمات من وحي قلبه هو؟ تفتح رسالته بشغف وتجده يخبرها بإنه يمتلك العالم طالما هي معه، ويخبرها بإنه يحبها جدا وجدا وجدا. تحتضن هاتفها، وتضع قبلة على شاشته، وتكتب له ردا. رسائله الصباحية تلك تجعلها تشعر بأنها تريد أن تحتضن العالم كله، ليس هاتفها وحسب. تُشعرها بأنها ملكة هذا الصباح المتوجة، وبأن على هذه الأرض أشياء لا تزال تستحق الحياة.
تمد أصابعها لتلتقط قطع ملابسها واحدة تلو الآخرى بحنو بالغ، وتسمع صوته مغازلا أناملها الرقيقة وأظافرها اللوزية. تعرف ما سيقوله عندما ترتدي ثيابها قطعة قطعة إلا أنها ترغب في سماعه مرات ومرات للأبد. يشرح لها كم حالف الحظ تلك الثياب لتشم رائحتها عن قرب، وكم محظوظ هذا الهاتف الذي تلمسه عشرات المرات في اليوم الواحد، ويغبط كل ما حولها من جمادات، وكل من يراها من بشر. تضحك هي ضحكة تنير الكون بأكمله وتصغي لدقات قلبه، وتسمع ما سينطق به قبل أن يفعل. يوصيها بأن تتناول فطورها، وبأن تأكل جيدا. ويذكرها بشرب قهوتها الصباحية التي قد كان ابتاعها لها. ويخبرها بأنه مشتاق ليوم يفتح به عيناه ليجدها بجواره، ولأن يحضر لها قهوتها بنفسه في الصباحات. أجمل الليال تلك التي تنام فيها على صوته الحانِ، وأجمل الصباحات تلك التي تستقبلها باتصاله.
تلقي نظرة أخيرة على مظهرها في المرآة وتأخذ حقيبة يدها التي لا تخلو من كحل وأحمر شفاه، وتطأ قدماها شوارع المدينة ذاهبة إلى عملها. تعرف أنه يوم شاق، لكن هذا اليوم بدأ بصوته فلا يهم ما سيحدث على مدار ساعاته. رغم أنها لا يمكنها أن تمسك بذراعه كطفلة صغيرة تتعلق بيد والدها، ورغم أنه ليس معها في هذا الحيز المكاني، هي على يقين أنه هنا. تسمع تعليقاته في رأسها كأنه واقفا بجانب كتفها الأيسر، ترى نظرات عينيه المحبة لها، وتشعر بحضوره يحميها. فتستقبل الزحام بسعة صدر، ولا تعبس في وجه السائلين. تبتسم في وجه الأطفال، وتشكر كل من يسدي لها معروفا. تصطحب أشعة الشمس معها حتى وإن اشتد برد الشتاء. تدفيء قلب من تحادثه، وتحمله روحها على حب الحياة. ليس كل من يقع في الحب يقع! هناك من يُخرج الحب منه أجمل ما فيه. وصباح كهذا الصباح لأجل عيونه كان يستحق منا أن نتحمل كل الأشياء السيئة التي حدثت دون أن نتبرم ونشتكي.
عندما تعبر الشارع تجده يتأملها من مسافة ليست بعيدة. يتأمل كل حركاتها بانبهار الأب الذي يرى طفلته تسير وحدها لأول مرة. يتأملها في شغف. لا يحرك رقبته بعيدا عن اتجاها، بل لا يحرك عينيه بعيدا عنها. يسير نحوها دون أن ينظر حوله. يتعثر أثناء مشيه ويكاد أن يقع. يقف مكانه وينظر إليها ويقول بصوت تسمعه :"ماذا تراني أفعل؟! أنتِ السبب! أنتِ ساحرةٌ!" تخفض نظرها إلى الأرض وتبتسم في خجل وتكمل سيرها وقلبها طرب. ترسل نظرة خاطفة ورائها فتجده حولها يخبرها بأنه في انتظارها حتى تعود. يطمئن قلبها فتسير بتأنِ وتكمل طريقها إلى عملها. صباح بمثل جمال الصباحات التي يصحبها فيها وجوده الكامل هي أجمل ما في تلك الحياة في عينيها البراقتين. ولمثل هذه الصباحات تحيا، وعلى مثل تلك الصباحات تعيش.