أكتب إليكم الآن وأنا أعترف بالجرم الذي أقترفه بحق نفسي يوميا عندما أعزف عن الكتابة. ولن أخفي عليكم، فأنا أؤنب نفسي مرات ومرات على عدم احترامي لحاجتي لنعمة منحها الله لي. أحيانا أظن أنني لن أكتب بشراهة مدخن إلا عندما أصبح امرأة مشعة تننظر أن يقتلها السرطان في أي لحظة مثلما قتل نعمات البحيري، أو عندما يصيبني جنون الإكتئاب فأهرب من أصوات الوحوش، والأماكن حالكة الظلمة في عقلي إلى كتابة الروايات مثلما كانت تفعل فيرجينيا وولف إلى أن انتحرت. أتذكر الآن كل المرات التي سمعت بها "شيء من بعيد ناداني" لأجلس وأكتب، ولكنني لم أعر لذلك الشيء أهمية. ربما لأنني كنت كسولة كدبِ الكوالا الأسترالي الذي أتمنى يوما أن ألعب معه وأمسح بيدي على ظهره، أو ربما لأنني كنت منهكة معنويا بشكل تام وكامل لا يسمح سوى بكتابة جمل تشبة الشاشة المنقطة بنقط سوداء وبيضاء التي كانت تعلن عن انتهاء بث قنوات التليفزيون المصري. ولابد أن أعترف بأنني لا أكتب إلا عندما أستفز. ولذلك أوجه رسالتي هذه من أمام لاب توبي إلى كل من يلومون علي انقطاعي عن الكتابة لفترات طويلة، ولمن يطالبونني بالكتابة أن يستفزونني لأكتب.
اليوم أنا مستفزة بالقدر الكافي الذي يسمح بأن أكتب. أنا مستفزة من هذه البلدة الظالم أهلها حد الوجع. أحيانا يمكنني أن أضحك وأنجو منها قبل أن تمسك بتلابيب فستاني الوردي الذي يطير آخره في الهواء فأشعر كم أنا حرة حينها. وأحيانا أخرى تهزمني وتجرني من شعري جرا على الأرض وتشعرني بمدى صغري. أنا مستفزة من المجتمع الصغير المسمى بالعمل. مستفزة من "الأوفيس جيرل" التي يبلغ عمرها عتبة الخمسينات التي تجري لتشتري الفطور يوميا للمديرين القابعين في مكتبهما دون عمل أي شيء ذو فائدة حقيقية، ثم تعود وتحضر الفطور مسرعة وتدخله على صينية بشكل يومي حتى مكتب المديرين وتعود للمطبخ لتحضر لهما الشاي. ولا يمكن للـ"أوفيس مدام" أن تشغل نفسها بشراء أي طعام جاهز لكائن من كان ممن يعملن فعليا، ويبذلن من مجهودهن وأصواتهن وأذهانهن قبل تأدية هذا الطقس اليومي. ويظن الرجلان أننا عميان لا نرى هذا، ويظلوا يكررون ببلاهة جملة أشك أنهم يفهمون معناها فيتوجهون بالحديث لي ولزميلاتي بجملة "Help yourself" بمناسبة ودون مناسبة. وتقال في معظم الأحيان بلا مناسبة فلا أفهم هل يقولونها لأنفسهم في حضورنا أم يشككوننا فيما نراه من عته!
أنا مستفزة من الأوفيس مدام نفسها لأنها وافقت على تنفيذ أمر المديرين بطلاء حوائط مكان العمل كاملة. ولا أعرف كيف سمحت لهما رجولتهما فالفرجة على امرأة خمسينية تمسك بفرشاة وتصعد درجات السلم لتطلي حوائط المكان الذي يملكونه بالدهان! أراهن أن هاذين الرجلين يسبان الفيمينيزم ويصابان بالحساسية من الفيمينيستس، ومع ذلك سمحا لنفسهما باستغلال سيدة تعمل لحسابهم للقيام بعمل يقوم به الرجال لأنها أوفر بالنسبة لهم من أجرة يد النقاش! تؤمن الفيمينيست بأنه لا يحق لها أن تجعل رجلا يقف في المواصلات العامة لتأخذ هي مقعده. ويعتقد المعادون للفيمينيزم أنه من العادي أن تدهن هذه السيدة الحوائط، أو وأن تذهب إلى سيارة كل واحد من المديرين لتحضر له منها ما يطلبه وكأنه ليس بينه وبين السيارة 5 دقائق مشي! وكأنه إذا غاب 5 دقائق عن مكان العمل ستقوم الدنيا ولن تقعد! أو أن تذهب إلى المكوجي لتستلم قمصان المديرين. ولا أدري حقيقة إن كانت تفتح السيارتين لتعلق بهما القمصان أم تقف دائرة الاستهبال الذكوري والاستغلال الرأسمالي عند إحضارهم من عند المكوجي فقط.
هذه السيدة قطعا تحتاج إلى عملها وإلى المال القليل الذي تحصل عليه منه، لكنها ليست غلبانة كما تتصور. فهي تذل أنفاس الواحد الذي لا ينتمي للإدارة عقبال ما تحضر له الطعام الذي طلبه، وقبل أن تفكر أن تشتكيها تذكر أن الرد جاهز: "لابد أن تحضر الفطور للمديرين أولا". آه كده عيني عينك. كما تذل أنفاسك لتمرر المكنسة على أرضية المكتب إذا طلبت أنت ذلك. وأؤكد إذا طلبت أنت ذلك لأنها لا تفعل هذا من نفسها أبدا. لابد أن تذهب إليها وتعبر عن تضررك من السجادة المتسخة، ومن سطح المكتب الذي انطبع ترابه على أكمامك، ومن وجود الصرصار المقلوب على ظهره الذي تفتتح به يومك أول ما تضع قدمك في مكتبك وتقول بسم الله. هذه السيدة نفسها وقفت تبكي أمام المدير لأنها لا تستطيع أن تغسل علبتين صغيرتين من البلاستيك -أحضرتهما زميلتان لتضعا فيهما طعامهما - فجاءت الأوامر بألا نثقل على الأوفيس مدام وأن نراعي ظروفها الصحية وبأن نهيلب أورسيلفز، لكنها تستطيع أن تصعد على السلم لتعلق بوستر الشركة على الحائط عادي! وتستطيع أن تدهن الحائط بالبويا عادي أيضا! وتستطيع أن تحمل براميل الوقود الثقيلة لتدخلها إلى المطبخ على مرأى ومسمع من "الذكريين" الجالسين المتفرجين. بقدر ما يستفزني استغلال أصحاب المال والسلطة والذكورة المتملين في هذين الرجلين، أنا جدا مستفزة من ولاء هذه السيدة الذي يكبر يوما بعد يوم لتلك الإدارة لدرجة أنها تتذكر تواريخ أعياد ميلاد الرجلين!
أما بالنسبة للرواتب، فإن مرتب الرجل نظير القيام بنفس الوظيفة في المكان نفسه يكون ضعف مرتب المرأة العاملة به. لذلك يستبعدون الرجال المتقدمين للوظيفة من البداية. هذا المكان قائم بالكامل على المجهود الذهني والمجهود البدني لنون النسوة المستغلات تحت مسمى أنهن حديثات التخرج أو تنقصهن الخبرة الكافية. وكأن كونك امرأة لا يسمح لكِ بكسب ما تستحقين نظير مجهودك! أو أن ليس لكِ احتياجاتك الخاصة التي تريدين أن تشتريها من حر مالك الذي تتعبين في مقابل الحصول عليه! أو أن ليس لكِ حياة خارج العمل تتطلب مالا! أن تحصلي على ما تستحقين من مال مقابل عملك وإن حتى لن تصرفي منه شيئا في حد ذاته هو حجر الزاوية. لا أن يأكل أي كان مهما كانت سلطته حقك المادي في كرشه!
وبعيدا عن هذه السيدة، يستفزني هذا البلد الذي سمح لرجلان لا يفقهان شيئا أن يطلبا بمليء فيهم حديثي التخرج من كلية من كليات القمة، ومن متحدثي اللغات للعمل لحسابهم. هذا البلد سمح لهما بأن يشعرا المتقدمين للعمل معهم بأنهم سيعطفون عليهم بقبولهم. ولأنهم حديثي التخرج، بالإضافة لكونهم بنات ليس لهم الحق في راتب يليق بإنسان عامل وليس مصروف طالب في الثانوية العامة. وليس لهم الحق في الاعتراض على أي شيء لأنهم لا يفهمون أيا شيئا. ولابد أن يفعلوا ما يؤمرون للحفاظ على ما يسمى بالمصلحة العامة.
تستفزني هذه البلدة التي تضعني يوميا مكان الصرخة ذاتها في اللوحة التي رسمها "مونك" النرويجي عام 1893 .في تلك اللوحة التي تراها أمامك أعلى المقال يمكنك أن ترى الإنهاك جليا، والغموض واضحا. تجد في رسمة "الصرخة" عالم من الدوامات التي لا تفهم لها أول من آخر. الضياع والخوف كلاهما مرسومان في وجه هذه الجمجمة. الضياع في مكان غير مفهومة نظمه التي لا تشبه النظم، والخوف من أن يصبح صاحب الجمجمة مجرد ذرة في دائرة ترسمها إحدى الدوامات. في هذه اللوحة لا شيء يبدو على طبيعته. لا السماء تبدو كالسماء، ولا البحر يبدو كالبحر. لا شيء يبدو على طبيعته في هذه البلدة. لا شيء واضح سوى أصوات الصراخ، والعته.