تحاول التعايش مع الدمار بداخلها. تسعى للتعود على صوت الإنفجار في كل مره يعيده عقلها عليها. تعمل جاهدة على تقبل بقايا الحطام الأسود بين ضلوعها. تلفظها كل طرقات الليل فتسير مشردة. تخسرها كل الشوارع المظلمة فتتحول لجوالة مسلوبة الأمل. لا يشعر جسدها المخدر بالبرد. ويتسبب الصقيع في تآكل روحها من الأعماق. تبقى معلقة في حالة من اللاحالة. فهي لا تنتمي لعالم الأموات ولكنها لم تعش. لم تفقد الوعي ولكن ذهنها لا يسعفها. ميتة أُعيدت إلى الحياة، ثم سُلبت منها عنوة، فظلت معلقة بين البرزخين.
في وسط الظلام تلمح نقطة ضوء صغيرة تلمع في الأفق البعيد فتخطف عينها الزائغة. تُجمّع قواها لتقترب من الضوء. تقاتل الأصوات الصارخة في رأسها بعدم جدوى الوصول. تتناسى كل المرات التى أغراها فيها الأمل بالسفر وخذلها وتركها مبعثرة على أرصفة القطارات وعلى أرضيات المطارات. تطأ بقدمها على كل موضع ترابي نزلت عليه دمعة من دمعاتها فاصطدمت به وحفرت أثرا. تمحي آثار الدموع المالحة من على تراب الطرقات. أهون عليها أن تدوسها هي من أن تمحيها قدم المشرد القادم من بعدها سالكا الطريق نفسه. يتراقص الضوء من بعيد، وينكسر قبل أن يصل إلى عينيها من خلال الدموع. تُكابر جرحها، وتواصل السير، فتقترب من مرادها.
هي ضائعة لدرجة تجعلها لا تهتم بالنظر إلى مصدر الضوء. لا تملك وقت لتضيعه بتأمل مصدر الضوء، فاكتفت به نفسه. يملأ الضوء عليها عينيها. وتبدأ في الحوم حول الضوء. تحوم في دوائر كبيرة متكررة نقطة قطرها الضوء. تزيد من سرعة قدميها وتحوم في دوائر أصغر بانتظام يتعاكس مع عدم اتزانها. تختصر المسافات وتقلل أقطار دوائرها وتقترب من المركز. تفقد قدميها فجأة وتعتمد على أجنحتها. تطير حول الضوء وتدور وتقترب. تحوم بسرعة أكبر ويزداد اقترابها. تدور وتقترب ويذوب جناحها الأيمن. تقترب وتحترق ويختفي جناحها الاخر. تلتصق بالضوء، وتحرقها النار، فتمتزج بها كما أرادات. وتموت.
يقولون إن الصيف هو أحسن الفصول الأربعة، وإن الربيع أبهجهم، وإن الشتاء أجملهم. ولا أحد يذكر الخريف أو يتذكره. لا يجيب الناس عادة عندما يُسئلون عن فصلهم المفضل في السنة بأنه الخريف. لا أحد يملك أسبابا لتفضيله على أي فصل اخر. لم يتذكره أحد سوى "حياة".
كانت هي كنسمة خريف باردة في
الصباح، ودافئة كشمس الخريف الهادئة، وخفيفة كورقة شجر تاركة نفسها للهواء، فيأخذها بعيدا عن غصنها الذي سقطت عنه، وبعيدا عن أرضها التي حفظتها. وكان جزء منها يشارك ورقة الشجر ذاتها في ذبولها. فصاحبة الأحلام المصفرة بعد إخضرارها كانت مُهمَله كالخريف.
تسير "حياة" وهي مستسلمة بالكامل لسماعات الرأس. تغني فيروز في أذنيها "حبيتك بالصيف، حبيتك بالشتي". كلاهما فصول متطرفة في الحرارة أو في البرودة، أما الخريف الذي كان نسيا منسيا هو النقطة الزمنية الانتقالية بينهما. ربما لا يناسب مشاعر الحب الأهوج سوى فصلين كهذين. أما الخريف فيناسبه حب عميق عمق النفس، ضاربا بجذوره في القلوب المحبة بعيدا عن البهرجة، فيبدو أقرب لوردة حمراء أصرت على الازدهار رغم جفاف التربة.
ليل الشتاء بارد وطويل، ولكن ليل الخريف، لحكمة ما، يتساوى مع نهاره. فالحب الخريفي متوازن توازن ساعات النهار المزدحم مع ساعات الليل الرائق في الفصل المنسي. تتساقط فيه أوراق الشجر مثلما تتساقط فيه صفات بشرية عن إنسان قرر أن يفسح المجال أمام نقاط النور لتزينه كما تعيد الأوراق الخضراء تزيين الأشجار.
للسقوط فصل. والخريف هو فصل الوقوع. هو فصل سقوط أوراق الأشجار، ووقوع القلوب في الحب. وكانت حياة تشبه الفتاة ذات الوجنتين الحمراوتين التي تذهب للحقل للحصاد. دائما ما كانت لوحات الغرب تجسد الخريف في هيئة فتاة تشبها. ورغم ذلك كانت مثال حي لكآبة الخريف التي سكنت قصائد الشعراء الإنجليز الرومانسيين. يمر الخريف و يُنسى لأنه هاديء جدا وقليل الضجيج. وكذلك تُنسى "حياة"، وتجد في النسيان حرية حركة أوراق الشجر المرمية بإهمال في الطرقات.