الثلاثاء، 14 يوليو 2015

عيد عجوز

مصدر الصورة


يوقظها من نومها ألم في ظهرها عصر اليوم السابع والعشرين من رمضان، فتنهض ببطء بعد أن فر النوم بعيدا عن عينيها  العجوزتين. تمسك بأسفل عمودها الفقاري، ويمناها تضغط بوهن على فخذها آملة أن يتوقف ألمها. تغادر سريرها، وتمشي على مهل منحنية الظهر ولا زالت تدعم ظهرها بيدها. تمر بجوار مرآة حجرتها دون أن ترفع ظهرها لتلقي نظرة عليها، لكنها تنظر برؤية ضبابية مباشرة  إلى أدراج طاولة زينتها. يد تمسك برف الطاولة العلوي، وتمتد الأخرى لفتح أحد الأدراج حيث بعض مستحضرات التجميل. تمد أصابعها لتلتقط مرآة صغيرة للغاية قد وضعتها أمس منكبة على وجهها في الدرج الأول، وتنظر إلى ما أخرجت من الدرج في صمت. 

 تترك يسراها ظهرها لتمسك بالمرآة المذهبة ، ولترفعها أمام وجهها، وتقربها من عينيها لترسمهما بالكحل الأسود. تمسك المكحلة بيد مرتعشة، فتترك على ثنايا جفونها المجعدة رطوشا قصيرة متباعدة. ورغم أنها تنزل ذراعيها لتريحمها بعد كل خط معوج ترسمه، يزداد ارتعاش المكحلة بين أصابعها أثناء رسم عينها الأخرى. وتمتليء أيضا ثنايا خطوط الزمن تحت عينيها بالكحل دون قصد منها، فتكتفي بما وضعته، فتضع المكحلة جانبا، وتسحب أحمر الشفاه الذي تجد صعوبة في شد غطاءه، فتتركه دوما عاريا. تلفُّه لتسحبه للأعلى قليلا وتسحب به على خديها، وتوزعه بأصابع يدها على بشرتها بنية النمش.


  لا يتبقى أمامها سوى أدوات أخرى تخرجها من درجها ولا تستخدمها. ماذا عسى الناس أن يقولوا إذا رأوها تلون شفاهها بسائل أحمر؟! ثم أنه لم يتبق لها في عينيها سوى خمسة أو ستة رموش على الأكثر، فلماذا الماسكارا؟!  تأخذهما وتعيدهما إلى الدرج بجوارطلاء الأظافر، لكنها تبقي على أحمر الشفاه والمرآة معها. هذه المرآة المعدنية المذهبة جد صغيرة، ولا يمكن لها إلا أن تعكس جزء واحدا فقط من أجزاء الوجه في الطلة الواحدة. وهذا يروقها كثيرا، فهي ليست مضطرة لرؤية وجهها كاملا دفعة واحدة. وتبقي بذلك في ذهنها على الصورة التي تعرفها عن ملامحه الشابة التي لا تجدها إذا ما نظرت.


 تترك المرآة من يدها، وتنهض لتفتح ضلفتي خزانتها وتأخذ تنظر إلى ما فيهما. ترى فساتينها القصيرة التي كانت ترتديها وهي لا تزال بنت الثامنة عشرة. وتنظر إلى تنوراتها المزركشة، وقمصانها الشيفونية التي لا زالت تحفظها، وتنظفها، وترتديها بخيلاء في المنزل وهي تدلك قدميها بمراهم الروماتويد. تختار من بين ملابسها بنطلونا جينز وبلوزة حمراء لتلبسهما، ومن فوقهما عباءة سوداء قاتمة استعدادا لمغادرة بيتها بعد المغرب. وتغطي ما تبقى من شعرها الرمادي بطرحة تكشف عن خصلات قد طالتها الحناء يوما. وتضع في حقيبة يدها عطر خليجي، وعلكة، وفوطة صحية، وأحمر الشفاه، ودواء القلب، والضغط، والبخاخة جنبا إلى جنب. وتتركهم هناك حتى يحين موعد خروجها.


  تمشي متمهلة حتى تصل للمذياع، وتوصل سلكه بالمكبس الكهربائي، فيأتي صوت ترتيل قرآن المغرب، ومن بعده ينطلق مدفع الإفطار.
عندما تسمع تكبيرة الأذان معلنة عن انتهاء يوم الصيام ترتشف رشفة واحدة من حسائها الساخن الذي قد اعدته أمس، ثم تقلبه بمعلقتها شاردة، ثم تكمل باقيه زاهدة فيه. تمرر منديلا مبللا على شفتيها الجافتين بعد أن أنهت بالكاد نصفه. وتنهض لتأخد حقيبة يدها، وتكاد أن تنسى مفتاح بيتها في الباب، لكنها سرعان ما تأخذه وترميه بداخل حقيبتها، وتتذكر أن ليس لها من أحد تستنجد به حال ما نسيته. تغلق الباب ورائها وتمشي بخطى بطيئة نحو المصعد الكهربائي ثم إلى الشارع حيث تريد أن توقف سيارة أجرة. 

  بالرغم من أن بعض سائقي سيارات الأجرة ينتقون زبائنهن ليكن شابات جميلات تخفف وجوههن عليهم عناء الزحام، يهديء أحدهم بسيارته ليعرف وجهتها. وعندما يجدها تريد الذهاب للمركز التجاري القريب في الحي الذي تسكنه يهز رأسه رافضا ببعض من الإحراج.  لم تعد تشير إلى السيارات، فقد علمت أنه من سيجد في قلبه بعض من الشفقة على عجوز مثلها من أن تظل واقفة سيتوقف أمامها بسيارته. لا تزال الشوارع خالية من المارة في ساعة كهذه، فتجد نفسها وحيدة تماما- باستثناء سائق السيارة- حتى تنزل منها أمام باب المركز.

  تنفتح الأبواب الزجاجية في حركة روتينية لتدخل العجوز، وتنظر يمينا ويسارا لتجد المحال مازالت مظلمة، ولم يعد أصحابها للعمل بعد. تريح جسدها بالجلوس على رخامة باردة على بعد يمكنها من رؤية حارس الأمن الشاب الذي يتناول إفطاره وهو يستمع لشيء ما على هاتفه المحمول. لعله يستمع إلى مسلسل إذاعي حيث لا يبدو عليه أي انفعال مع الموسيقى. ترى من خلال نظارتها الطبية أنه شابا ريفيا وسيما في منتصف العشرينات، إلا أنه يفتقر لحس الأناقة فيما يتعلق بارتداء ملابسه. تتركه يكمل إفطاره في سلام من نظراتها التي لم يلاحظها، وتنتقل إلى أخر.

 عاد مرة أخرى ليفتح متجره. يمسك بزجاجة عصير يتناولها دفعة واحدة أثناء مشيه نحو الباب. يدفعه بيمناه، وينير المكان. يلاحظ وجودها فينظر إليها نظرة واحدة قصيرة لكنها كفيلة بأن تخبرها بأنها أقبح إمرأة في هذا الحي. ويتعجب لما هي هنا في ساعة كهذه. بنات العشرين لم يأتين بعد حتى تأتي تلك الشمطاء! تنقل ناظرها مسرعة بعيدا عنه إلى حقيبتها، وتتحسس بيدها مرآتها بالداخل، لكنها لا تخرجها. تظل تنظر إلى الأرض الرخامية ولا ترفع عينيها إلاعندما تسمع ضحكات مجموعة من الفتيات الشابات يدخلن إلى المركز تزامنا مع إعادة فتح  الكثير من المتاجر.

 تترك المقعد الرخامي وتتبع السبعة فتيات الجميلات إلى متجر الملابس. تقف بالقرب من بابه وتتفقد بعض البلوزات بلا أكمام وهي تتسلل النظر إليهن. لا تظهر تحت أعينهن أكياسا منتفخة. ولا يوجد على جوانب أعينهم خطوط رفيعة متكررة. وتظهر بشرتهن كبشرة ثمرة الخوخ ناعمة تميل للحمرة، وليست كجلد التفاحة الذابلة التي على وشك أن تموت.تراهن يجربن بعض الفساتين عليهن وهن يضحكن ويلتقطن الصور. تنظر إليهن بحنين
لم تستطع أن تخفيه إلى ماض بعيد. وبالرغم من أنهن يعجبهن الكثير من المعروض في هذا المتجر، يجدن أسعاره باهظة. فيتركنه وينتقلن في خفة إلى المتجر المجاور وهي خلفهن.

 يلقين نظرات على نافذات العرض الزجاجية، وهي لا تزال تتفقدهن، ولا يرى سواها نظرات الإعجاب التي يرسلها الشباب المار بجوارهن إليهن، إلا أنهن لا يلاحظن قط، حيث أنهن منهمكات في الاستمتاع بصحبة بعضهن البعض، وباختيار ملابس العيد.  لو كان الأمر لها، لو كان الأمر بيديها لقايضتهن عملاتها الأجنبية في حسابها البنكي ومجوهراتها مقابل سنة واحدة ترجع لها فيها بشرة الخوخ تلك، أو شهرا واحدا تختفي فيه تجاعيد عينيها، أو أسبوعا واحدا تمشي فيه دون أن يكون ظهرها منحنيا، أو يوما واحدا يحق لها فيه أن تزين شفتيها ورموشها. لم يعد الأمر أمرها الآن. ولا تملك لنفسها إلا أن تعيش ذكرياتها مرة أخرى برؤية الفتيات تلك.

 يتخذن السلم الكهربائي للأدوار العلوية بحثا عن متجر يناسب ميزانيتهن. يتوقفن بين الحين عند متاجر الحقائب والأحذية، وتشير كل واحدة منهن إلى الأخرى إلى الحقيبة التي ستبتاعها إذا فاض شيئا بعد ابتياع الملابس. يعلمن جيدا أنه لن يتبقى شيئا، لكنهن يحببن استعراض أذواقهن. ولما لا يفصحن عن آرائهن، ويدافعن عن اختياراتهن مادمن شابات جميلات. النقد الوحيد الذي يمكن أن تتلقاه إحداهن من الأخرى "أن تلك الحقيبة تبدو كبيرة جدا على عمرك". تتمنى العجوز لو أن يوجه إليها أحدهم النقد نفسه، لكنها تظل مجرد أمنية.

ترى إحداهن انعكاسا لنفسها في النافذة الزجاجية، فتذكرهن أنهن بحاجة لزيارة دورة المياة. يدخلن إلى دورة المياة ويتزاحمن على المرآة الضخمة المعلقة على الحائط، ويجددن كلهن أحمر شفاههن على مرأى من العجوز التى  ترى صورهن في المرآة متحاشية النظر إلى نفسها. يخرجن متجهات إلى متجر أخر يجدن فيه ضالتهن المنشودة. تبتاع إحداهن تنورة وبلوزة، وأخرى تبتاع فستانا، والأخريات يبتعن سراويلا وقمصانا. يستلمن حقائب الملابس الجديدة في بهجة، وتراقبهن العجوز في أسى.

 يخرجن من المركز وهن يغنين أغاني استقبال العيد، وتجد العجوز صعوبة في مواكبة خطواتهن فتوقف سيارة أجرة أخرى وتطلب من السائق السير وراء الفتيات حتى يتفرقن ويعدن إلى بيوتهن. وتعود هي الأخرى إلى بيتها، وتخلع عبائتها وتظل بالبنطال والبلوزة. وتدندن أغنيات العيد بصوت حزين جالسة على سريرها حتى يزور النوم جفونها، فيخفت صوتها، وتستسلم للنوم، وتغلق أجفانها على صورة لها في رمضان من ثلاثين عاما.   
   

الأربعاء، 25 فبراير 2015

صباحات نحيا بها ومن أجلها




تستيقظ بابتسامة مرسومة على شفتيها في الدقيقة الخامسة والأربعين بعد الخامسة على صوت منبه هاتفها المحمول. توقف تشغيله وتنفض عن نفسها النوم والغطاء. تُنزِل قدميها لتتلمس موضع نعليها وهي تعبث بسعادة بأطراف شعرها البني. تتأمل وجهها الحسن في مرآة الحمام وهي تُعيد في ذاكرتها الأغنية التي غناها لها حبيب قلبها ليلة أمس قبل النوم، وتتذكر ما تلاه عليها من أبيات الشعر العربي البليغة، والكلمات التي أسمعها لها والتي تشبه الدندنات الموسيقية في سحرها، وتكرر على قلبها صوته وهو يتمنى لها أحلاما هانئة. 

لا يقطع حبل الذكريات الحديثة ذاك إلا سماعها صوت تنبيه الرسائل على هاتفها، فتجري نحوه لتقرأ رسالته. بماذا سيخبرها هذا الصباح يا ترى؟ أمقطع من إحدى أغنياتهما المفضلة؟ أم دعوة قلبية بأن يحفظها الله له؟ أم يرسل لها اليوم كلمات من وحي قلبه هو؟ تفتح رسالته بشغف وتجده يخبرها بإنه يمتلك العالم طالما هي معه، ويخبرها بإنه يحبها جدا وجدا وجدا. تحتضن هاتفها، وتضع قبلة على شاشته، وتكتب له ردا. رسائله الصباحية تلك تجعلها تشعر بأنها تريد أن تحتضن العالم كله، ليس هاتفها وحسب. تُشعرها بأنها ملكة هذا الصباح المتوجة، وبأن على هذه الأرض أشياء لا تزال تستحق الحياة.

 تمد أصابعها لتلتقط قطع ملابسها واحدة تلو الآخرى بحنو بالغ، وتسمع صوته مغازلا أناملها الرقيقة وأظافرها اللوزية. تعرف ما سيقوله عندما ترتدي ثيابها قطعة قطعة إلا أنها ترغب في سماعه مرات ومرات للأبد. يشرح لها  كم حالف الحظ تلك الثياب لتشم رائحتها عن قرب، وكم محظوظ هذا الهاتف الذي تلمسه عشرات المرات في اليوم الواحد، ويغبط كل ما حولها من جمادات، وكل من يراها من بشر. تضحك هي ضحكة تنير الكون بأكمله وتصغي لدقات قلبه، وتسمع ما سينطق به قبل أن يفعل. يوصيها بأن تتناول فطورها، وبأن تأكل جيدا. ويذكرها بشرب قهوتها الصباحية التي قد كان ابتاعها لها. ويخبرها بأنه مشتاق ليوم يفتح به عيناه ليجدها بجواره، ولأن يحضر لها قهوتها بنفسه في الصباحات. أجمل الليال تلك التي تنام فيها على صوته الحانِ، وأجمل الصباحات تلك التي تستقبلها باتصاله. 


تلقي نظرة أخيرة على مظهرها في المرآة وتأخذ حقيبة يدها التي لا تخلو من كحل وأحمر شفاه، وتطأ قدماها شوارع المدينة ذاهبة إلى عملها. تعرف أنه يوم شاق، لكن هذا اليوم بدأ بصوته فلا يهم ما سيحدث على مدار ساعاته. رغم أنها لا يمكنها أن تمسك بذراعه كطفلة صغيرة تتعلق بيد والدها، ورغم أنه ليس معها في هذا الحيز المكاني، هي على يقين أنه هنا. تسمع تعليقاته في رأسها كأنه واقفا بجانب كتفها الأيسر، ترى نظرات عينيه المحبة لها، وتشعر بحضوره يحميها. فتستقبل الزحام بسعة صدر، ولا تعبس في وجه السائلين. تبتسم في وجه الأطفال، وتشكر كل من يسدي لها معروفا. تصطحب أشعة الشمس معها حتى وإن اشتد برد الشتاء. تدفيء قلب من تحادثه، وتحمله روحها على حب الحياة. ليس كل من يقع في الحب يقع! هناك من يُخرج الحب منه أجمل ما فيه. وصباح كهذا الصباح لأجل عيونه كان يستحق منا أن نتحمل كل الأشياء السيئة التي حدثت دون أن نتبرم ونشتكي. 

عندما تعبر الشارع تجده يتأملها من مسافة ليست بعيدة. يتأمل كل حركاتها بانبهار الأب الذي يرى طفلته تسير وحدها لأول مرة. يتأملها في شغف. لا يحرك رقبته بعيدا عن اتجاها، بل لا يحرك عينيه بعيدا عنها. يسير نحوها دون أن ينظر حوله. يتعثر أثناء مشيه ويكاد أن يقع. يقف مكانه وينظر إليها ويقول بصوت تسمعه :"ماذا تراني أفعل؟! أنتِ السبب! أنتِ ساحرةٌ!" تخفض نظرها إلى الأرض وتبتسم في خجل وتكمل سيرها وقلبها طرب. ترسل نظرة خاطفة ورائها فتجده حولها يخبرها بأنه في انتظارها حتى تعود. يطمئن قلبها فتسير بتأنِ وتكمل طريقها إلى عملها. صباح بمثل جمال الصباحات التي يصحبها فيها وجوده الكامل هي أجمل ما في تلك الحياة في عينيها البراقتين. ولمثل هذه الصباحات تحيا، وعلى مثل تلك الصباحات تعيش.

الثلاثاء، 3 فبراير 2015

عن الكتابة


تكتب؟ 
غصب عني أكتب. 
غصب عني 
غصب عني أكتب

 الكتابة فعل لا ينتهي طالما يدخل النفس في جسد الكاتب ويخرج منه. فالكاتب لا يكف عن نسج القصص القصيرة في عقله، سواء اختار لها نهاية، أو ظل حائرا كيف ينهيها. ويستمر في سطر الرواية التي يعرف نهايتها جيدا ويرسم حيوات شخصياتها بفكره. ورغم أن فعل الكتابة هو فعل مستمر في الزمن، فإن الزمن أحيانا يضني على الكتاب بوقته، فتبقى كثير من المحاولات الابداعية مجرد محاولات. فالكتابة لا ترضي بأقل من أن يكون فعلها تاما لا ناقصا. وفعلها لا يتم إلا بتدوين النص. 

 وتتجمع وحوش محاولات الكاتب الفاشلة في تدوين النصوص كوحوش سوداء لا يرى منها إلا عيون تلمع في الظلام لتنقض عليه - لا لتأكله - بل لتوقع به فريسة لفعل الكتابة. ويجد الكاتب نفسه أمام تلك الرغبة الملحة في تدوين كل ما ألفه، وكل ما نسيه، وكل ما أسقطه من حساباته الكتابية. يجد الكاتب نفسه مأخوذا رغما عن أنفه وجسده كاملا عن كل شيء عداها. ويجلس أمام آلته الكاتبة، أو حاسوبه، أو ورقته وقلمه، يجلس أمام أدواته أيا كانت ويسكب نفسه جملا وسطورا. وحينها تحتفل الكتابة بغوايتها، وينتصر النص المدون على الموت.

كراكوف التي لا أعرفها



رأيت فيما يرى الرائي الليلة أنني في مدينة كراكوف أمشي في شوارعها برفقة "أجنيشكا"، والتي يعني اسمها "النقية" إذا ما ترجمناه من البولندية إلى العربية، وهي صديقتي التي تسكن هذه المدينة منذ مجيئها للحياة. لم تكن كراكوف في الحلم كما كنت تخيلتها في عقلي، ولم تكن تشبه الصور التي رأيتها من قبل، ولا تمط بأي صلة للمدينة التي وصفتها لي "أجا" العام الماضي عندما كانت كليتنا تتشاركان في قص القصص عن المدن، والأماكن، والترحال. 

 أنظر لصديقتي وأراها تنظر بدورها للآثار بنية اللون المتبقية من معالم كراكوف، وهي تبتسم في حنين إلى ماض بعيد، وتتوجه بنظرها إلى باب خشبي ضخم ممتد إلى السماء بلا نهاية وعلى جانبه الأيمن شباك كبير لم يكن في نية من بنو الباب أن يضعوه هناك. يبدو وكأنه شباك نتج صدفة عن مرور قذيفة ما بين ألواح الباب الخشبية. وعلى جانبه الأيسر فتحات ضخمة غير منتظمة الشكل والحجم تدل على أن ما تبقى من الباب اليوم شهد عملية اعتداء - ليس فقط على أسوار المدينة وبواباتها_ بل امتد ليشمل بناياتها وشوارعها ومحالها. 

 كراكوف التي كنت أراها في صور من سافروا إليها، وفي الصورالتي أخذها لها أهلها ومحبيها، وفي اللقطات الكلامية التي ترجمها عقلي إلى لقطات مرئية، كانت تستمع بحمام شمس ذهبية سمحت لشوارعها بألا تخلو من زهرة تباع الشمس. بنيت حوائطها طوبة فوق طوبة على الطراز المعماري القديم، ولا تخلو شوارعها من تفاصيل الأحجار المرصوصة جنبا إلى جنب حتى يمكنك أن تشعر بالفواصل الرفيعة بين كل حجر والآخر أثناء مشيك عليه. 

أما كراكوف التي رأيتها في منامي ليست إلا مدينة متشحة بالسواد، كئيبة، ومدمرة كأنها خرجت من حرب لتوها - أو خرج منها المحاربون لتوهم-، مظلمة ومعتمة لا شمس تزورها، شوراعها خالية من المارة وكأنهم قد قتلوا جميعا أثر الرصاص أو الرعب، نوافذ بيوتها رغم تسلل الرصاصات خلال ضلفها الخشبية والزجاجية لازالت مغلقة تخفي وراءها جثث أصحاب المنازل، ونصف بناياتها تناثر إلى جانب تراب شوارعها، شوارعها المكسية أرضياتها بالتراب والرمال، والنصف الآخر المتبق مكانه من بناياتها لا يصلح لشيء إلا للرثاء.


- هل هذه هي كراكوف؟! ألسنا في مدينة أخرى يا أجا؟

 قالت مكابرة:  بالطبع نحن في كراكوف. هذه هي كراكوف.

- ولكن هذه ليست كراكوف التي رأيتها في الصور! ليست هي ما تخيلته!

قالت وهي تبتعد: ربما ما رأيتها أنت مدينة مختلفة، ولكنك لا تتذكرين جيدا.

- كيف؟! أنت كنت معي! كنا نراها في الصور معا! كنت تحكين لي عنها! أنت تعرفين أن هذه ليست كراكوف. 


لم تجبني أجا، ولم تقل لي شيئا. فقط سبقتني ببضعة خطوات وهي تنظر تجاه الباب الخشبي المتهدم، لكنها كانت تنظر إلى مكان ما وحدها هي تعرفه.ورأيت أنا في نظراتها الخسارة والحسرة. رأيت في عينيها كراكوف الضائعة.