مصدر الصورة
يوقظها من نومها ألم في ظهرها عصر اليوم السابع والعشرين من رمضان، فتنهض ببطء بعد أن فر النوم بعيدا عن عينيها العجوزتين. تمسك بأسفل عمودها الفقاري، ويمناها تضغط بوهن على فخذها آملة أن يتوقف ألمها. تغادر سريرها، وتمشي على مهل منحنية الظهر ولا زالت تدعم ظهرها بيدها. تمر بجوار مرآة حجرتها دون أن ترفع ظهرها لتلقي نظرة عليها، لكنها تنظر برؤية ضبابية مباشرة إلى أدراج طاولة زينتها. يد تمسك برف الطاولة العلوي، وتمتد الأخرى لفتح أحد الأدراج حيث بعض مستحضرات التجميل. تمد أصابعها لتلتقط مرآة صغيرة للغاية قد وضعتها أمس منكبة على وجهها في الدرج الأول، وتنظر إلى ما أخرجت من الدرج في صمت.
تترك يسراها ظهرها لتمسك بالمرآة المذهبة ، ولترفعها أمام وجهها، وتقربها من عينيها لترسمهما بالكحل الأسود. تمسك المكحلة بيد مرتعشة، فتترك على ثنايا جفونها المجعدة رطوشا قصيرة متباعدة. ورغم أنها تنزل ذراعيها لتريحمها بعد كل خط معوج ترسمه، يزداد ارتعاش المكحلة بين أصابعها أثناء رسم عينها الأخرى. وتمتليء أيضا ثنايا خطوط الزمن تحت عينيها بالكحل دون قصد منها، فتكتفي بما وضعته، فتضع المكحلة جانبا، وتسحب أحمر الشفاه الذي تجد صعوبة في شد غطاءه، فتتركه دوما عاريا. تلفُّه لتسحبه للأعلى قليلا وتسحب به على خديها، وتوزعه بأصابع يدها على بشرتها بنية النمش.
لا يتبقى أمامها سوى أدوات أخرى تخرجها من درجها ولا تستخدمها. ماذا عسى الناس أن يقولوا إذا رأوها تلون شفاهها بسائل أحمر؟! ثم أنه لم يتبق لها في عينيها سوى خمسة أو ستة رموش على الأكثر، فلماذا الماسكارا؟! تأخذهما وتعيدهما إلى الدرج بجوارطلاء الأظافر، لكنها تبقي على أحمر الشفاه والمرآة معها. هذه المرآة المعدنية المذهبة جد صغيرة، ولا يمكن لها إلا أن تعكس جزء واحدا فقط من أجزاء الوجه في الطلة الواحدة. وهذا يروقها كثيرا، فهي ليست مضطرة لرؤية وجهها كاملا دفعة واحدة. وتبقي بذلك في ذهنها على الصورة التي تعرفها عن ملامحه الشابة التي لا تجدها إذا ما نظرت.
تترك المرآة من يدها، وتنهض لتفتح ضلفتي خزانتها وتأخذ تنظر إلى ما فيهما. ترى فساتينها القصيرة التي كانت ترتديها وهي لا تزال بنت الثامنة عشرة. وتنظر إلى تنوراتها المزركشة، وقمصانها الشيفونية التي لا زالت تحفظها، وتنظفها، وترتديها بخيلاء في المنزل وهي تدلك قدميها بمراهم الروماتويد. تختار من بين ملابسها بنطلونا جينز وبلوزة حمراء لتلبسهما، ومن فوقهما عباءة سوداء قاتمة استعدادا لمغادرة بيتها بعد المغرب. وتغطي ما تبقى من شعرها الرمادي بطرحة تكشف عن خصلات قد طالتها الحناء يوما. وتضع في حقيبة يدها عطر خليجي، وعلكة، وفوطة صحية، وأحمر الشفاه، ودواء القلب، والضغط، والبخاخة جنبا إلى جنب. وتتركهم هناك حتى يحين موعد خروجها.
تمشي متمهلة حتى تصل للمذياع، وتوصل سلكه بالمكبس الكهربائي، فيأتي صوت ترتيل قرآن المغرب، ومن بعده ينطلق مدفع الإفطار. عندما تسمع تكبيرة الأذان معلنة عن انتهاء يوم الصيام ترتشف رشفة واحدة من حسائها الساخن الذي قد اعدته أمس، ثم تقلبه بمعلقتها شاردة، ثم تكمل باقيه زاهدة فيه. تمرر منديلا مبللا على شفتيها الجافتين بعد أن أنهت بالكاد نصفه. وتنهض لتأخد حقيبة يدها، وتكاد أن تنسى مفتاح بيتها في الباب، لكنها سرعان ما تأخذه وترميه بداخل حقيبتها، وتتذكر أن ليس لها من أحد تستنجد به حال ما نسيته. تغلق الباب ورائها وتمشي بخطى بطيئة نحو المصعد الكهربائي ثم إلى الشارع حيث تريد أن توقف سيارة أجرة.
بالرغم من أن بعض سائقي سيارات الأجرة ينتقون زبائنهن ليكن شابات جميلات تخفف وجوههن عليهم عناء الزحام، يهديء أحدهم بسيارته ليعرف وجهتها. وعندما يجدها تريد الذهاب للمركز التجاري القريب في الحي الذي تسكنه يهز رأسه رافضا ببعض من الإحراج. لم تعد تشير إلى السيارات، فقد علمت أنه من سيجد في قلبه بعض من الشفقة على عجوز مثلها من أن تظل واقفة سيتوقف أمامها بسيارته. لا تزال الشوارع خالية من المارة في ساعة كهذه، فتجد نفسها وحيدة تماما- باستثناء سائق السيارة- حتى تنزل منها أمام باب المركز.
تنفتح الأبواب الزجاجية في حركة روتينية لتدخل العجوز، وتنظر يمينا ويسارا لتجد المحال مازالت مظلمة، ولم يعد أصحابها للعمل بعد. تريح جسدها بالجلوس على رخامة باردة على بعد يمكنها من رؤية حارس الأمن الشاب الذي يتناول إفطاره وهو يستمع لشيء ما على هاتفه المحمول. لعله يستمع إلى مسلسل إذاعي حيث لا يبدو عليه أي انفعال مع الموسيقى. ترى من خلال نظارتها الطبية أنه شابا ريفيا وسيما في منتصف العشرينات، إلا أنه يفتقر لحس الأناقة فيما يتعلق بارتداء ملابسه. تتركه يكمل إفطاره في سلام من نظراتها التي لم يلاحظها، وتنتقل إلى أخر.
عاد مرة أخرى ليفتح متجره. يمسك بزجاجة عصير يتناولها دفعة واحدة أثناء مشيه نحو الباب. يدفعه بيمناه، وينير المكان. يلاحظ وجودها فينظر إليها نظرة واحدة قصيرة لكنها كفيلة بأن تخبرها بأنها أقبح إمرأة في هذا الحي. ويتعجب لما هي هنا في ساعة كهذه. بنات العشرين لم يأتين بعد حتى تأتي تلك الشمطاء! تنقل ناظرها مسرعة بعيدا عنه إلى حقيبتها، وتتحسس بيدها مرآتها بالداخل، لكنها لا تخرجها. تظل تنظر إلى الأرض الرخامية ولا ترفع عينيها إلاعندما تسمع ضحكات مجموعة من الفتيات الشابات يدخلن إلى المركز تزامنا مع إعادة فتح الكثير من المتاجر.
تترك المقعد الرخامي وتتبع السبعة فتيات الجميلات إلى متجر الملابس. تقف بالقرب من بابه وتتفقد بعض البلوزات بلا أكمام وهي تتسلل النظر إليهن. لا تظهر تحت أعينهن أكياسا منتفخة. ولا يوجد على جوانب أعينهم خطوط رفيعة متكررة. وتظهر بشرتهن كبشرة ثمرة الخوخ ناعمة تميل للحمرة، وليست كجلد التفاحة الذابلة التي على وشك أن تموت.تراهن يجربن بعض الفساتين عليهن وهن يضحكن ويلتقطن الصور. تنظر إليهن بحنين لم تستطع أن تخفيه إلى ماض بعيد. وبالرغم من أنهن يعجبهن الكثير من المعروض في هذا المتجر، يجدن أسعاره باهظة. فيتركنه وينتقلن في خفة إلى المتجر المجاور وهي خلفهن.
يلقين نظرات على نافذات العرض الزجاجية، وهي لا تزال تتفقدهن، ولا يرى سواها نظرات الإعجاب التي يرسلها الشباب المار بجوارهن إليهن، إلا أنهن لا يلاحظن قط، حيث أنهن منهمكات في الاستمتاع بصحبة بعضهن البعض، وباختيار ملابس العيد. لو كان الأمر لها، لو كان الأمر بيديها لقايضتهن عملاتها الأجنبية في حسابها البنكي ومجوهراتها مقابل سنة واحدة ترجع لها فيها بشرة الخوخ تلك، أو شهرا واحدا تختفي فيه تجاعيد عينيها، أو أسبوعا واحدا تمشي فيه دون أن يكون ظهرها منحنيا، أو يوما واحدا يحق لها فيه أن تزين شفتيها ورموشها. لم يعد الأمر أمرها الآن. ولا تملك لنفسها إلا أن تعيش ذكرياتها مرة أخرى برؤية الفتيات تلك.
يتخذن السلم الكهربائي للأدوار العلوية بحثا عن متجر يناسب ميزانيتهن. يتوقفن بين الحين عند متاجر الحقائب والأحذية، وتشير كل واحدة منهن إلى الأخرى إلى الحقيبة التي ستبتاعها إذا فاض شيئا بعد ابتياع الملابس. يعلمن جيدا أنه لن يتبقى شيئا، لكنهن يحببن استعراض أذواقهن. ولما لا يفصحن عن آرائهن، ويدافعن عن اختياراتهن مادمن شابات جميلات. النقد الوحيد الذي يمكن أن تتلقاه إحداهن من الأخرى "أن تلك الحقيبة تبدو كبيرة جدا على عمرك". تتمنى العجوز لو أن يوجه إليها أحدهم النقد نفسه، لكنها تظل مجرد أمنية.
ترى إحداهن انعكاسا لنفسها في النافذة الزجاجية، فتذكرهن أنهن بحاجة لزيارة دورة المياة. يدخلن إلى دورة المياة ويتزاحمن على المرآة الضخمة المعلقة على الحائط، ويجددن كلهن أحمر شفاههن على مرأى من العجوز التى ترى صورهن في المرآة متحاشية النظر إلى نفسها. يخرجن متجهات إلى متجر أخر يجدن فيه ضالتهن المنشودة. تبتاع إحداهن تنورة وبلوزة، وأخرى تبتاع فستانا، والأخريات يبتعن سراويلا وقمصانا. يستلمن حقائب الملابس الجديدة في بهجة، وتراقبهن العجوز في أسى.
يخرجن من المركز وهن يغنين أغاني استقبال العيد، وتجد العجوز صعوبة في مواكبة خطواتهن فتوقف سيارة أجرة أخرى وتطلب من السائق السير وراء الفتيات حتى يتفرقن ويعدن إلى بيوتهن. وتعود هي الأخرى إلى بيتها، وتخلع عبائتها وتظل بالبنطال والبلوزة. وتدندن أغنيات العيد بصوت حزين جالسة على سريرها حتى يزور النوم جفونها، فيخفت صوتها، وتستسلم للنوم، وتغلق أجفانها على صورة لها في رمضان من ثلاثين عاما.
جميله جدا
ردحذف