تختنق الغرفة لقلة ذرات الهواء التي تعاني أثناء دخولها من النافذة الضيقة. تلفظ جدرانها الباردة من يدخلها. وتختنق الدمية التي ترسل نظراتها للمراقبة. عيناها الباردتان كالغرفة تراقبان الجميع في صمت وحذر. تجلس كقطة تراقب فتلاحظ فتصدر الأحكام. تسخر من سائر الدمى في رأسها لأنها ترى ما لا يروه. تهزأ بهم لأنها تعلم ما لا يعلموه. جميعهم مرضى نفسيون. ليست المشكلة في مرضهم، لكن المشكلة في أنهم لم يتوقفوا للحظة ليتسائلوا إن كانوا أسوياء أم لا. وإن وصلوا إلى مشارف الاعتراف تراجعوا و أنكروا. ولم يحدث قط أن تفكروا في أسباب مرضهم. ولم يسعوا -حتما -إلى علاج أنفسهم وإلا لما كانوا مسخا هكذا.
تتوجه عينا الدمية إلى الضحية الأولى والأخيرة، تركز على أكثر الفتيات حدة في المكان وترسم حولها دائرة حمراء لتضعها في بؤرة الصورة. للدمية عيون تمكنها من رؤية الخيوط البيضاء السميكة المربوطة بيدي المرأة والخيط الملفوف حول عنقها. يتحكم أحد الخيوط في شفتها السفلى فيتسبب في غياب ابتسامتها بشكل تام. تبتسم الدمية فتستنكر الحادة ابتسامتها لعجزها. فتتأمل الحادة عفوية الدمية في إنبهار من يرى الشمس للمرة الأولى، ويتحول الانبهار لسخط، ويصبح السخط بدوره طاقة سوداء من الحقد. يمسك خيطان آخران بجبهتها ويشدانها إلى أعلى ليجعلا من وجهها أكثر عبوسا فتبدو علامات الشيخوخة جلية على وجهها بالكامل. وتشد بعض الخيوط أجفانها لتتسع عيناها لتكون أكثر حدة وجمودا.
تتوقف عينا الدمية عن التصوير وتبدأ في الضحك . تسائلت في رأسها ماذا ستفعل لو رأت الحادة نفسها بنفسها وهي خاضعة للخيوط. تستمر الدمية في ضحك هستيري. لكل خيط صاحب. فخيط المجتمع الملتف حول عنقها أكثرهم سمكا. ويتكون خيط مشاكل نشئتها من خيطان مزدوجان حول اليد اليمنى. ويتشابك خيط الوحدة مع خيط الاحتياج العاطفي فيلتفوا حول باقي الجسد فلا تستطيع التفريق بالعين المجردة بينهم. تمتد الخيوط البيضاء الطويلة للأعلى. كلما رفعت رأسك معها تراها مستمرة في الصعود. تستمر عيناك في الصعود بالنظر حتى يؤلمك عنقك فتقرر إنزاله. في طريقك إلى الأسفل سترى النقطة التي تلتقي بها الخيوط تماما في الصدر.
يتلاعب الظلام الحالك القابع في دواخلنا بالخيوط، و يحركنا كما يحلو له. يقتات الجانب المظلم من النفس على الخوف. والخوف ظلام. نخاف من فتح النوافذ، ونخشى تمرير شعاع النور إلى الداخل. نقضي سنوات عجاف من أعمارنا في لعن الظلام منتظرين وصول النور، ولكننا لا نحاول الوصول إليه ولا الاقتراب منه أو حتى السماح له بالدنو. نصل دائما متأخرين لأننا نتأخر في إدراك وجوده. نستوعب متأخرا أن اقتراب النور يعني استعدادنا للتخلي عن الظلام. لا يمكن الجمع بين النور والخوف. فإما نور وإما خوف. الظلام منطقة أكثر أمنا لأننا نعرفها. النور منطقة جديدة، تتخلى _أو تنوي التخلي_ في طريقك للوصول إليها عن أسوء ما تحمل بداخلك: الظلام.
هناك قلوب مباركة تتملص من قبضة الخيوط والظلام والخوف. وكان قلب الدمية من القلوب المنيرة التي تتنبأ سلفا بما سيحدث. للقلوب أصوات تعتمد قوتها على مساحة النور بداخلها. تستشعر القلوب بأن سعادة اللحظة مؤقتة فتجعل منها مصدر للسعادة الدائمة. يخبر النور القلب بأن اللحظة التي أنفق عمرا من عمره ليكون جاهزا عند استقبالها قد حانت. فلتحكم قبضتك عليها أيها القلب. فلتترك نفسك للنور حتى تكسر الدمية التي تحبس روحك وراء برودها. فلتحب حتى يدميك حبك. فلتغتسل بالدموع حتى تتطهر. فلتترك للنور حرية الانعكاس على جدرانك. في نقطة ما في المستقبل القريب أو البعيد - إن كنت تملك الشجاعة الكافية- ستعترف لنفسك بأن السعادة كانت هناك بالفعل. اكتملت في نقطة الوقت التي ظننت حينها أن السعادة لم تعثر لك على طريق بعد. أيها القلب فليساعدك النور في أن تجد في ضيق المدينة براحا، وفي خنقتها هواءا، وفي وحشتك أنيسا. فليساعدك النور في تقطيع الخيوط قبل التفافها حولك.